فصل: سلطنة الملك المنصور لاجين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 سلطنة الملك المنصور لاجين

هو السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين بن عبد الله المنصوري سلطان الديار المصرية تسلطن بعد خلع الملك العادل كتبغا المنصوري كما تقدم ذكره في يوم الجمعة عاشر صفر من سنة ست وتسعين وستمائة‏.‏

وأصل لاجين هذا مملوك للملك المنصور قلاوون اشتراه ورباه وأعتقه ورقاه إلى أن جعله من جملة مماليكه فلما تسلطن أمره وجعله نائبًا بقلعة دمشق‏.‏

فلما خرج الأمير سيف الدين سنقر الأشقر عن طاعة الملك المنصور قلاوون وتسلطن بدمشق وتلقب بالملك الكامل وملك قلعة دمشق قبض على لاجين هذا وحبسه مدة إلى أن انكسر سنقر الأشقر وملك الأمير علم الدين سنجر الحلبي دمشق أخرجه من محبسه ودام لاجين بدمشق إلى أن ورد مرسوم الملك المنصور قلاوون باستقرار لاجين هذا في نيابة دمشق دفعة واحدة فوليها ودام بها إحدى عشرة سنة إلى أن عزله الملك الأشرف خليل بن قلاوون بالشجاعي ثم قبض عليه ثم أطلقه بعد أشهر ثم قبض عليه ثانيًا مع جماعة أمراء وهم‏:‏ الأمير سنقر الأشقر المقدم ذكره الذي كان تسلطن بدمشق وتلقب بالملك الكامل والأمير ركن الدين طقصو الناصري حمو لاجين هذا والأمير سيف الدين جرمك الناصري والأمير بلبان الهاروني وغيرهم فخنقوا الجميع وما بقي غير لاجين هذا فقدموه ووضعوا الوتر في حلقه وجذب الوتر فانقطع وكان الملك الأشرف حاضرًا فقال لاجين‏:‏ يا خوند أيش لي ذنب‏!‏ ما لي ذنب إلا أن صهري طقصو ها هو قد هلك وأنا أطلق ابنته فرق له خشداشيته وقبلوا الأرض وسألوا السلطان فيه وضمنوه فأطلقه وخلع عليه وأعطاه إمرة مائة فارس بالديار المصرية وجعله سلاح دار‏.‏

قلت‏:‏ يعني جعله أمير سلاح فإن أمير سلاح هو الذي يناول السلطان السلاح وغيره‏.‏

قلت‏:‏ لله در المتنبي حيث يقول‏:‏ الكامل لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم وذلك أن لاجين لما خرج من الحبس وصار من جملة الأمراء خاف على نفسه واتفق مع الأمير بيدرا نائب السلطنة وغيره على قتل الأشرف حتى تم لهم ذلك حسب ما تقدم ذكره في ترجمة الملك الأشرف‏.‏

ثم اختفى لاجين أشهرًا إلى أن أصلح أمره الأمير كتبغا وأخرجه وخلع عليه الملك الناصر محمد بن قلاوون كما تقدم وجعله على عادته‏.‏

كل ذلك بسفارة الأمير كتبغا‏.‏

ثم لما تسلطن كتبغا جعله نائب سلطنته بل قسيم مملكته واستمر لاجين على ذلك حتى سافر الملك العادل كتبغا إلى البلاد الشامية وأصلح أمورها وعاد إلى نحو الديار المصرية وسار حتى نزل بمنزلة اللجون اتفق لاجين هذا مع جماعة من أكابر الأمراء على قتل الملك العادل كتبغا ووثبوا عليه بالمنزلة المذكورة وقتلوا الأميرين‏:‏ بتخاص وبكتوت الأزرق العادليين وكانا من أكابر مماليك الملك العادل كتبغا وأمرائه واختبط العسكر وبلغ الملك العادل كتبغا ذلك ففاز بنفسه وركب في خمسة من خواصه وتوجه إلى دمشق‏.‏

وقد حكينا ذلك كله في ترجمة كتبغا‏.‏

فاستولى عند ذلك لاجين على الخزائن والدهليز وبرك السلطنة وساق الجميع أمامه إلى مدينة غزة‏.‏

وبايعوه الأمراء بالسلطنة بعد شروط اشترطوها الأمراء عليه حسب ما يأتي ذكرها في محله‏.‏

وسار الجميع إلى نحو الديار المصرية حتى دخلوها وملكوا القلعة بغير مدافع وجلس لاجين هذا على كرسي المملكة في يوم الجمعة المقدم ذكره‏.‏

وتم أمره وخلع على الأمراء بعدة وظائف وهم‏:‏ الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري بنيابة السلطنة بالديار المصرية عوضًا عن نفسه وخلع على الأمير قبجق المنصوري بنيابة الشام عوضًا عن الأمير أغزلو العادلي وعلى عدة أمراء أخر‏.‏

ثم ركب الملك المنصور لاجين بعد ذلك من قلعة الجبل في يوم الاثنين العشرين من صفر بأبهة السلطنة وعليه الخلعة الخليفتية وخرج إلى ظاهر القاهرة إلى جهة قبة النصر ثم عاد من باب النصر وشق القاهرة إلى أن خرج من باب زويلة والأمراء والعساكر بين يديه وحمل الأمير بدر الدين بيسري الجتر على رأسه وطلع إلى القلعة‏.‏

وخلع أيضًا على الأمراء وأرباب الوظائف على العادة‏.‏

واستمر في السلطنة وحسنت سيرته وباشر الأمور بنفسه وأحبه الناس لولا مملوكه منكوتمر فإنه كان صبيًا مذموم السيرة‏.‏

ولما كان يوم الثلاثاء منتصف ذي القعدة من سنة ست وتسعين وستمائة قبض السلطان الملك المنصور لاجين على الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري نائب السلطنة وحبسه وولى مملوكه منكوتمر المذكور نيابة السلطنة عوضه فعظم ذلك على أكابر الأمراء في الباطن‏.‏

ثم بعد أيام ركب السلطان الملك المنصور لاجين ولعب الكرة بالميدان فتقنطر به الفرس فوقع من عليه وتهشم جميع بدنه وانكسرت يده وبعض أضلاعه ووهن عظمه وضعفت حركته وبقي يعلم عنه مملوكه ونائبه سيف الدين منكوتمر وأيس من نفسه‏.‏

كل ذلك والأمراء راضون بما يفعله منكوتمر لأجل خاطره إلى أن من الله تعالى عليه بالعافية وركب ولما ركب زينت له القاهرة ومصر والبلاد الشامية لعافيته وفرح الناس بعافيته فرحًا شديدًا خصوصا الحرافيش فإنه لما ركب بعد عافيته قال له واحد من الحرافشة‏:‏ يا قضيب الذهب بالله أرني يدك فرفع إليه يده وهو ماسك المقرعة وضرب بها رقبة الحصان الذي تحته‏.‏

وكان ركوبه في حادي عشرين صفر من سنة سبع وتسعين وستمائة‏.‏

ولما كان لعب الكرة وكبا به فرسه ووقع وانكسرت يده قال فيه الأديب شمس الدين محمد المعروف بابن البياعة البسيط حويت بطشًا وإحسانًا ومعرفة وليس يحمل هذا كله الفرس ولما تعافى الملك المنصور لاجين قال فيه شمس الدين المذكور نثرًا وهو‏:‏ ‏"‏ أسفر ثغر صباحه عن محيا القمر الزاهر وبطش الأسد الكاسر وجود البحر الزاخر فيا له يومًا نال به الإسلام على شرفه شرفًا وأخذ كل مسلم من السرور العام طرفًا فملئت كل النفوس سرورًا وزيدت قلوب المؤمنين وأبصارهم ثباتًا ونورًا ‏"‏ ثم أنشد أبياتًا منها‏:‏ البسيط فمصر والشام كل الخير عمهما وكل قطر علت فيه التباشير فالكون مبتهج والخلق مبتسم والخير متصل والدين مجبور وكيف لا وعدو الدين منكسر بالله والملك المنصور منصور والشرك قد مات رعبًا حيث صاح به التوحيد هذا حسام الدين مشهور ثم بعد ذلك بمدة قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسري وأحتاط على جميع موجوده‏!‏ في سادس شهر ربيع الآخر‏.‏

ثم جهز السلطان الملك المنصور العساكر إلى البلاد الشامية لغزو سيس وغيرها وعليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري وغيره من الأمراء وسارت العساكر من الديار المصرية إلى البلاد الشامية وفتحت تل حمدون وتل باشر وقلعة مرعش وجاء الأمير علم الدين سنجر الدواداري حجر في رجله عطله عن الركوب في أيام الحصار‏.‏

وأستشهد الأمير علم الدين سنجر المعروف بطقصبا وجرح جماعة كثيرة من العسكر والأمراء‏.‏

ثم إن الملك المنصور قبض على الأمير عز الدين أيبك الحموي المعزول عن نيابة دمشق قبل تاريخه بمدة سنين وعلى الأمير سنقر شاه الظاهري لأمر بلغه عنهما‏.‏

ثم في أواخر صفر أخرج السلطان الملك المنصور لاجين الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية إلى الكرك ليقيم بها وفي خدمته الأمير جمال الدين آقوش أستاذ دار الملك المنصور فنزل الملك الناصر محمد بحواشيه من قلعة الجبل وسافر حتى وصل إلى الكرك ثم بدا للسلطان الملك المنصور هذا أن يعمل الروك بالديار المصرية وهو الروك الحسامي فلما كان يوم سادس جمادى الأولى من سنة سبع وتسعين وستمائة ابتدأ عمل الروك والشروع فيه في إقطاعات الأمراء وأخباز الحلقة والأجناد وجميع عساكر الديار المصرية واستمروا في عمله إلى يوم الاثنين ثامن شهر رجب من سنة سبع وتسعين وستمائة وفرقت المثالات على الأمراء والمقدمين‏.‏

وفي اليوم العاشر ضرع نائب السلطنة الأمير سيف الدين منكوتمر في تفرقة المثالات على الحلقة والبحرية ومماليك السلطان وغير ذلك فكان كل من وقع له مثال لا سبيل له إلى المراجعة فيه فمن الجند من سعد ومنهم من شقي وأفرد للخاص أعمال الجيزية بتمامها وكمالها ونواحي الصفقة الإتفيحية وثغر دمياط والإسكندرية ونواحي معينة من البلاد القبلية والبحرية وعين لمنكوتمر من النواحي ما اختاره لنفسه وأصحابه وكان الحكم في التعيين لداوين منكوتمر والاختيار لهم في التفرقة وكان الذي باشر هذا الروك وعمله من الأمراء الأمير بدر الدين بيليك الفارسي الحاجب والأمير بهاء الدين قراقوش الطواشي الظاهري‏.‏

وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي‏:‏ وكان مدة عمل الروك ثمانية أشهر إلا أيامًا قلائل‏.‏

ثم تقنطر السلطان الملك المنصور لاجين عن فرسه في لعب الكرة انتهى كلام الصفدي‏.‏

وقال القطب اليونيني‏:‏ حكى بعض كتاب الجيش بالديار المصرية في سنة سبعمائة قال لي‏:‏ أخدم في ديوان الجيش بالديار المصرية أربعين سنة قال‏:‏ والديار المصرية أربعة وعشرون قيراطًا منها‏:‏ أربعة قراريط للسلطان ولما يطلقه وللكلف والرواتب وغير ذلك ومنها عشرة للأمراء والإطلاقات والزيادات ومنها عشرة قراريط للحلقة قال‏:‏ وذكروا للسلطان ولمنكوتمر أنهم يكفون الأمراء والجند بأحد عشر قيراطًا يستخدم عليها حلقة بمقدار الجيش فشرعوا في ذلك وطلبونا وطلبوا الكتاب الجياد في هذه الصناعة فكفينا الأمراء والجند بعشرة قراريط وزدنا الذين تضرروا قيراطًا فبقي تسعة فاتفق قتل السلطان ومنكوتمر‏.‏

وكان في قلوب الأمراء من ذلك هم عظيم فأنعم على كل أمير ببلد وبلدين من تلك التسعة قراريط وبقي الجيش ضعيفًا ليس له قوة وكانت التسعة قراريط التي بقيت خيرًا من الأحد عشر قيراطًا المقطعة‏.‏

قلت‏:‏ يعني أن هذا خارج عن الأربعة قراريط التي هي برسم السلطان خاصة‏.‏

انتهى‏.‏

وقيل في الروك وجه آخر قال‏:‏ لما كان في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وستمائة قصد السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري أن يروك البلاد المصرية وينظر في أمور عساكر مصر فتقدم التاج الطويل مستوفي الدولة بجمع الدواوين لعمل أوراق بعبرة إقطاع الأمراء والجند وقانون البلاد وندب الأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري والأمير بدرالدين بيليك الفارسي الحاجب فجمع سائر الكتاب لذلك وأخذوا في عمله فلم يحكموا العمل وذلك أنهم عمدوا إلى الإقطاعات الثقيلة المتحصلة من إقطاعات الأمراء والجند وأبدلوها بإقطاعات دونها في العبرة والمتحصل وأصلحوا ما كان من الإقطاعات ضعيفًا وأفرد للعسكر بأجمعه أربعة عشر قيراطًا وللسلطان أربعة قراريط وأرصد لمن عساه يتضرر من الأمراء والجند ويشكو قلة المتحصل قيراطان فتم بذلك عشرون قيراطًا وقتل الملك المنصور لاجين ولم يستخدم أحدًا وأوقف برسم عسكر أخر يستجد أربعة قراريط وأفرد لخاص السلطان الجيزية والإتفيحية ومنفلوط وهو والكوم الأحمر ومرج بني هميم وحرجة سمطا وأتفو أدفو بأعمال قوص وإسكندرية ودمياط وأفرد لمنكوتمر مملوكه نائب السلطنة من الجهات ما لم يكن لنائب قبله وهو عبرة نيف عن مائة ألف دينار‏.‏

فلما فرغت الأوراق على ما ذكرنا جلس السلطان الملك المنصور لاجين لتفرقة المثالات على الأمراء والمقدمين فأخذوها وهم غير راضين بذلك وتبين للسلطان من وجوه الأمراء الكراهة فأراد زيادة العبرة في الإقطاعات فمنعه نائبه منكوتمر من ذلك وحذره فتح هذا الباب فإنه يخشى أن يعجز السلطان عن سده وتكفل له منكوتمر بإتمام العرض فيما قد عمل برسم السلطان ولمن كان له تعلق في هذا العمل من الأمراء وغيرهم أن يرفعوا شكايتهم إلى النائب وتصدى منكوتمر لتفرقة إقطاعات أجناد الحلقة فجلس في شباك النيابة بالقلعة ووقف الحجاب بين يديه وأعطى لكل تقدمة مثالاتها فتناولوها على كره منهم وخافوا أن يكلموا منكوتمر لسوء خلقه وسرعة بطشه وتمادى الحال على ذلك عدة أيام‏.‏

وكانت أجناد الحلقة قد تناقصت أحوالهم عن أيام الملك المنصور قلاوون فإنهم كانوا على أن أقل عبرة الإقطاعات وأضعف متحصلاتها عشرة آلاف درهم وما فوق ذلك إلى ثلاثين ألف درهم وهي أعلاها فرجع الأمر في هذا الروك إلى أن استقر أكثر الإقطاعات عشرين ألفًا إلى ما دونها فقل لذلك رزق الأجناد فإنه صار من كان متحصله عشرين ألفًا رجع إلى عشرة آلاف ومن كان عبرة إقطاعه عشرة آلاف بقيت خمسة آلاف فشق ذلك على الجند ولم يرضوه إلا أنهم خشوا التنكيل من منكوتمر وكانت فيهم بقية من أهل القوة والشجاعة فتقدموا إلى النائب منكوتمر وألقوا مثالاتهم وقالوا‏:‏ إنا لا نعتد قط بمثل هذه الإقطاعات ونحن إما أن نخدم الأمراء وإلا بطلنا فعظم قولهم على النائب وأغضبه وأمر الحجاب بضربهم وساقهم إلى السجن فشفع فيهم الأمراء فلم يقبل شفاعتهم وأقبل منكوتمر على من حضر من الأمراء والمقدمين وغيرهم فأوسعهم سبًا وملأهم تقريعًا وتعنيفًا حتى وغر صدورهم وغير نياتهم فانصرفوا وقد عولوا على عمل الفتنة وبلغ السلطان ذلك فعنف منكوتمر ولامه وأخرج الأجناد من السجن بعد أيام‏.‏

وكان عمل هذا الروك وتفرقته من أكبر الأسباب وأعظمهما في فتك الأمراء بالسلطان الملك المنصور لاجين وقتله وقتل نائبه منكوتمر المذكور‏.‏

على ما سيأتي ذكره‏.‏

وكان هذا الروك أيضًا سببًا كبيرًا في إضعاف الجند بديار مصر وإتلافهم فإنه لم يعمل فيه عمل طائل ولا حصل لأحد منهم زيادة يرضاها وإنما توفر من البلاد جزء كبير‏.‏

فلما قتل الملك المنصور لاجين تقسمها الأمراء زيادة على ماكان بيدهم انتهى‏.‏

ثم إن السلطان الملك المنصور لاجين جهز الأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير والأمير سيف الدين حمدان بن صلغاي إلى البلاد الشامية وعلى أيديهم مراسيم شريفة بخروج العساكر الشامية وخروج نائب الشام الأمير قبجق المنصوري بجميع أمراء دمشق حتى حواشي الأمير أرجواش نائب قلعة دمشق فوصلوا إلى دمشق وألحوا في خروج العسكر ونوهوا بأن التتار قاصدون البلاد فخرج نائب الشام بعساكر دمشق في ليلة الخميس رابع عشر المحرم من سنة ثمان وتسعين وستمائة‏.‏

ووقع لقبجق نائب الشام المذكور في هذه السفرة أمور أوجبت عصيانه وخروجه من البلاد الحلبية بمن معه من الأمراء ومماليكه إلى غازان ملك التتار‏.‏

وكان الذي توجه معه من أكابر الأمراء‏:‏ بكتمر السلاح دار وألبكي وبيغار وغيرهم في جمع كثير وكان خروجهم في ليلة الثلاثاء ثامن شهر ربيع الأخر‏.‏

وسبب خروج قبجق عن الطاعة وتوجهه أنه كان ورد عليه مرسوم السلطان بالقبض على هؤلاء الأمراء المذكورين وغيرهم ففطن الأمراء بذلك فهرب منهم من هرب وبقي هؤلاء فجاؤوا إلى قبجق وهو نازل على حمص فطلبوا منه أمانًا فأمنهم وحلف لهم وبعث قبجق إلى السلطان يطلب منه أمانًا لهم فأبطأ عليه الأمان ثم خشن عليه بعض كابر أمراء دمشق في القول بسببهم فعلم قبجق أن ذلك الكلام من قبل السلطان فغضب وخرج على حمية وتبعه الأمير عز الدين بن صبرا والملك الأوحد وجماعة من مشايخ الأمراء يسترضونه فلم يرجع وركب هو ومن معه من حواشيه ومن الأمراء المذكورين وسار حتى وصل ماردين والتقى مع مقدم التتار فخدمهم مقدم التتار وأخذهم وتوجه بأطلاب التتار وعساكره إلى أن وصلوا إلى غازان ملك التتار وهو نازل بأرض السيب من أعمال واسط‏.‏

فلما قدم قبجق ومن معه على غازان سر بهم وأكرمهم ووعدهم ومناهم وأعطى لكل أمير عشرة آلاف دينار ولكل مملوك مائة دينار وللمماليك الصغار مع الركبدارية خمسين دينارًا وكل دينار من هذه الدنانير صرفه باثني عشر درهمًا ثم أقطع الأمير قبجق المذكور مدينة همذان وأعمالها فلم يقبل قبجق واعتذر أن ليس له قصد إلا أن يكون في صحبة السلطان الملك غازان ليرى وجهه في كل وقت‏!‏ فأجابه غازان إلى ما سأله وأعجبه ذلك منه‏.‏

وكان لما خرج قبجق من حمص إلى جهة التتار وبلغ أمراء دمشق ذلك خرج في طلبه الأمير كجكن والأمير أيدغدي شقير بمماليكهم ومعهم أيضًا جماعة من عسكر الشام فوجدوه قد قطع الفرات ولحقوا بعض ثقله‏.‏

وعند وصول قبجق ومن معه إلى غازان بلغه قتل السلطان الملك المنصور لاجين بالديار المصرية وكان خبر قتل السلطان أيضًا بلغ الأمير كجكن والأمير أيدغدي لما خرجوا في أثر قبجق فانحلت عزائمهم عن اللحوق بقبجق ورجعوا عنه وإلا كانوا لحقوه وقاتلوه‏.‏

وأما أمر السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين صاحب الترجمة فإنه لما أخذ في قبض من استوحش منهم من الأمراء وغيرهم وزاد في ذلك بإشارة مملوكه منكوتمر استوحش الناس منه ونفرت قلوبهم وأجمعوا على عمل فتنة‏.‏

ثم فوض لمملوكه منكوتمر جميع أمور المملكة فاستبد منكوتمر بوظائف الملك ومهماته‏.‏

وانتهى حال أستاذه الملك المنصور معه إلى أن صار إذا رسم الملك المنصور لاجين مرسومًا أو كتب لأحد توقيعًا وليس هو بإشارة منكوتمر يأخذه منكوتمر من يد المعطى له ويمزقه في الملأ ويرده ويمنع أستاذه منه فعند ذلك استثقل الأمراء وطأة منكوتمر وعلموا أن أستاذه الملك المنصور لا يسمع فيه كلام متكلم فعملوا على قتل أستاذه الملك المنصور لاجين‏.‏

قلت‏:‏ الولد الخبيث يكون سببًا لاستجلاب اللعنة لوالده‏!‏ انتهى‏.‏

وقال الأمير بيبرس الدوادار في تاريخه‏:‏ وكان سبب قتل لاجين أمور منها‏:‏ أنه لما أراد أن يتسلطن جاءه جماعة من الأمراء واشترطوا عليه شروطًا فالتزمها لاجين منها أنه يكون كأحدهم ولا ينفرد برأي عنهم ولا يسلط يد أحد من مماليكه فيهم وكان الأعيان الحاضرون في هذه المشورة والمتفقون على هذه الصورة‏:‏ الأمير بدر الدين بيسري الشمسي والأمير قرا سنقر المنصوري والأمير سيف الدين قبجق والأمير الحاج بهادر أمير حاجب الحجاب والأمير كرت والأمير حسام الدين لاجين السلاح دار الرومي الأستادار والأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح والأمير عز الدين أيبك الخازندار والأمير جمال الدين آقوش الموصلي والأمير مبارز الدين أمير شكار والأمير بكتمر السلاح دار والأمير سيف الدين سلار والأمير طغجي والأمير كرجي والأمير طقطاي والأمير برلطاي وغيرهم ولما حلف لهم الملك المنصور لاجين على ما شرطوا قال الأمير سيف الدين قبجق‏:‏ نخشى أنك إذا جلست في المنصب تنسى هذا التقرير وتقدم الصغير من مماليكك على الكبير وتفوض لمملوكك منكوتمر في التحكم والتدبير فتنصل لاجين من ذلك وكرر لاجين الحلف أنه لا يفعل فعند ذلك حلفوا له‏.‏

ورحلوا نحو الديار المصرية يعني أن ذلك كان بعد هروب الملك العادل كتبغا وعند دخول لاجين إلى غزة فوقع هذه الشروط كلها يمدينة غزة انتهى‏.‏

قال بيبرس‏:‏ فلما تسلطن رتب الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري نائبًا والأمير الحاج بهادر حاجبًا على عادته والأمير سلار أستادارًا والأمير بكتمر السلاح دار أمير اخور واستقر بالصاحب فخر الدين بن الخليلي في الوزارة ورتب الأمير قبجق نائب الشام ثم بعد مدة أفرج عن الأمير برلغي فأعطاه إقطاعًا بدمشق ثم أفرج عن الأمير بيبرس الجاشنكير وجماعة من الأمراء وأعطى بيبرس الجاشنكير إمرة بالقاهرة‏.‏

قلت‏:‏ وبيبرس هذا هو الذي تسلطن فيما بعد حسب ما يأتي ذكره‏.‏

ثم برز مرسومه باستقرار الملك العادل كتبغا في نيابة صرخد وكتب له بها منشورًا‏.‏

انتهى كلام بيبرس باختصار لأنه خرج في سياق الكلام إلى غير ما نحن بصدده‏.‏

وقال غيره‏:‏ ولما تسلطن لاجين وثبتت قدمه ورسخت نسي الشروط وقبض على أكابر خشداشيته من أعيان أمراء مصر وأماثلهم مثل‏:‏ الأمير قرا سنقر والبيسري وبكتمر السلاح دار وغيرهم وولى مملوكه منكوتمر نيابة السلطنة بل صار منكوتمر هو المتصرف في الممالك‏.‏

فعند ذلك نفرت قلوب الأمراء والجند من الملك المنصور لاجين ودبروا عليه واستوحش هو أيضًا منهم واحترز على نفسه وقلل من الركوب ولزم القعاد بقلعة الجبل متخوفًا وكان كرجي خصيصًا به وهو أحد من كان أعانه على السلطنة فقدمه لاجين لما تسلطن على المماليك السلطانية فكان يتحدث في أشغالهم ويدخل للسلطان من أراد لا يحجبه عنه حاجب فحسده منكوتمر مع ما هو فيه من الحل والعقد في المملكة وسعى في إبعاد كرجي عن السلطان الملك المنصور لاجين‏.‏

فلما ورد البريد يخبر بأمر القلاع التي فتحها عسكر السلطان ببلاد الأرمن حسن منكوتمر إلى السلطان أن يرسل كرجي المذكور إليها نائبًا ليقيم فيها فوافقه السلطان على ذلك وكلم كرجي فاستعفى كرجي من ذلك فأعفاه السلطان بعد أمور فكمن كرجي في نفسه‏.‏

ثم أخذ مع هذا منكوتمر يغلظ على المماليك السلطانية وعلى الأمراء الكبار في الكلام فعظم ذلك عليهم وتشاكوا فيما بينهم من منكوتمر وقالوا‏:‏ هذا متى طالت مدته أخذنا واحدًا بعد واحد وأستاذه مرتبط به ولا يمكن الوثوب عليه أيام أستاذه فلم يجدوا بدًا من قتل أستاذه الملك المنصور لاجين قبله ثم يقتلونه بعده واتفقوا على ذلك‏.‏

قال الشيخ مجد الدين الحرمي وكيل بيت المال‏:‏ كان الملك المنصور لاجين متزوجًا ببنت الملك الظاهر بيبرس وكانت دينة عفيفة فحكت أنها رأت في المنام ليلة الخميس قبل قتل السلطان بليلة واحدة كأن السلطان جالس في المكان الذي قتل فيه وكأن عدة غربان سود على أعلى المكان وقد نزل منهم غراب فضرب عمامة السلطان فرماها عن رأسه وهو يقول‏:‏ كرج كرج فلما ذكرت ذلك للسلطان قالت له‏:‏ أقم الليلة عندنا فقال السلطان‏:‏ ما ثم إلا ما قدره الله‏!‏ وخرج من عندها إلى القصر بعد أن ركب في أول النهار على العادة وكان صائمًا وهو يوم الخميس عاشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة فأفطر بالقصر‏.‏

ثم دخل إلى القصر الجواني بعد العشاء الآخرة وأخذ في لعب الشطرنج وعنده خواصه وهم‏:‏ قاضي القضاة حسام الدين الحنفي والأمير عبد الله وبريد البدوي وإمامه محب الدين بن العسال فأول من دخل عليه كرجي وكان نوغيه السلاح دار من جملة المتفقين وهو في نوبته عند السلطان وكان كرجي مقدم البرجية والسلطان مكب على لعب الشطرنج فأوهم كرجي أنه يصلح الشمعة فرمى الفوطة على النيمجاة ثم قال السلطان لكرجي‏:‏ رحت بيت البرجية وغلقت عليهم والبرجية هم الآن مماليك الأطباق فقال كرجي‏:‏ نعم يا خوند وقد كان أوقف كرجي أكثرهم في دهليز القصر فشكره السلطان وأثنى عليه من حضر فقال السلطان القاضي القضاة‏:‏ لولا الأمير سيف الدين كرجي ما وصلت أنا إلى السلطنة فقبل كرجي الأرض وقال‏:‏ يا خوند ما تصلي العشاء فقال السلطان‏:‏ نعم وقام حتى يصلي فضربه كرجي بالسيف على كتفه فطلب السلطان النيمجاة فلم يجدها فقام من هول الضربة ومسك كرجي ورماه تحته وأخذ نوغيه السلاح دار النيمجاة وضرب بها رجل السلطان فقطعها فانقلب السلطان على قفاه يخور في دمه‏.‏

انتهى ما ذكره وكيل بيت المال‏.‏

وقال القاضي حسام الدين الحنفي‏:‏ كنت عند السلطان فما شعرت إلا وستة أو سبعة أسياف نازلة على السلطان وهو مكب على لعب الشطرنج فقتلوه ثم تركوه وأنا عنده وغلقوا علينا الباب وكان سيف الدين طغجي قد قصد بقية البرجية المتفقين معه ومع كرجي في الدركاه فقال لهم‏:‏ قضيتم الشغل فقالوا‏:‏ نعم‏.‏

ثم إنهم توجهوا جميعًا إلى دار سيف الدين منكوتمر وهو بدار النيابة من قلعة الجبل فدقوا عليه الباب وقالوا له‏:‏ السلطان يطلبك فأنكر حالهم وقال لهم‏:‏ قتلتم السلطان فقال له كرجي‏:‏ نعم يا مأبون وقد جئناك نقتلك فقال‏:‏ أنا ما أسلم نفسي إليكم إنما أنا في جيرة الأمير سيف الدين طغجي فأجاره طغجي وحلف له أنه لا يؤذيه ولا يمكن أحدًا من أذيته ففتح داره فتسلموه وراحوا به إلى الجب فأنزلوه إلى عند الأمراء المحبوسين فلما دخل إلى الجب قام إليه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وتلقاه متهكمًا عليه ثم قام إليه الأمير عز الدين أيبك الحموي وشتمه وأراد قتله لأن منكوتمر هذا كان هو السبب في مسك هؤلاء الأمراء وإقلاب الدولة من حرصه على أن الأمر يفضي إليه ويتسلطن بعد أستاذه فأقام منكوتمر نحو ساعة في الجب وراح الأمير طغجي إلى داره حتى يقضي شغلًا له فاغتنم كرجي غيبته وأخذ معه جماعة وتوجه إلى باب الحبس وأطلع منكوتمر صورة أنهم يريدون تقييمه كما جرت العادة في أمر المحتبسين فامتنع من الطلوع فألحوا عليه وأطلعوه وذبحوه على باب الجب ونهبوا داره وأمواله‏.‏

ثم اتفقوا كما هم في الليل على سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وعوده إلى ملكه كونه ابن أستاذهم وأن يكون سيف الدين طغجي نائب السلطنة ومهما عملوه يكون باتفاق الأمراء وأصبح نهار الجمعة حلفوا الأمراء والمقدمين والعسكر جميعه للملك الناصر محمد بن قلاوون ونائب السلطنة طغجي‏.‏

وسيروا في الحال خلف الملك الناصر محمد يطلبونه من الكرك وركب الأمير طغجي يوم السبت في الموكب والتف عليه العسكر وطلع إلى قلعة الجبل وحضر الأمراء الموكب ومد السماط كما جرت العادة به من غير هرج ولا غوغاء وكأنه لم يجر شيء وسكنت الفتنة وفرح غالب الناس بزوال الدولة لأجل منكوتمر‏.‏

ودام ذلك إلى أن كان يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وتسعين المذكورة وصل الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح عائدًا من الشام من فتوح سيس وصحبته العساكر المتوجهة معه وكان قد راح إليه جماعة من أمراء مصر لتلقيه إلى بلبيس وأعلموه بصورة الحال وقالوا له بأن الذي وقع من قتل الملك المنصور ليس هو عن رضاهم ولا علموا به وأغروه على قتل طغجي واتفقوا معه على ذلك وكانوا الأمراء المذكورون قد أشاروا قبل خروجهم على طغجي أن يخرج يلتقي الأمير بكتاش أمير سلاح فركب طغجي بكرة يوم الاثنين وتوجه نحوه حتى التقاه وتعانقا وتكارشا‏.‏

ثم قال أمير سلاح لطغجي‏:‏ كان لنا عادة من السلطان إذا قدمنا من السفر يتلقانا وما أعلم ذنبي الآن ما هو كونه ما يلقاني اليوم‏!‏ فقال له طغجي‏:‏ وما علمت بما جرى على السلطان السلطان قتل‏!‏ فقال أمير سلاح‏:‏ ومن قتله قال له بعض الأمراء وهو الأمير سيف الدين كرت أمير حاجب‏:‏ قتله سيف الدين طغجي وكرجي فأنكر عليه وقال‏:‏ كلما قام للمسلمين ملك تقتلونه‏!‏ تقدم عني لا تلتصق بي وساق عنه أمير سلاح فتيقن طغجي أنه مقتول فحرك فرسه وساق فانقض عليه بعض الأمراء وقبض عليه بشعر دبوقته ثم علاه بالسيف وساعده على قتله جماعة من الأمراء فقتل وقتل معه ثلاثة نفر ومروا سائقين إلى تحت القلعة‏.‏

وكان كرجي قد قعد في القلعة لأجل حفظها فبلغه قتل رفيقة طغجي فألبس البرجية السلاح وركب في مقدار الذي فارس حتى يدفع عن نفسه فركبت جميع أجناد الحلقة والأمراء والمقدمين في خدمة أمير سلاح إلى الرابعة من النهار ثم حملوا العساكر على جماعة كرجي فهزموهم وساق كرجي وحده واعتقد أن أصحابه يتوجهون حيث توجه فلم يتبعه غير تبعه ونوغيه الكرموني أمير سلاح دار الذي كان أعانه على قتل الملك المنصور لاجين‏.‏

فلما أبعدوا والقوم في أثرهم لحقه بعض خشداشيته وضربه بالسيف حل كتفه ثم ساعده بعض الأمراء حتى قتل وقتل معه نوغيه الكرموني السلاح دار الذي كان أعانه على قتل لاجين المقدم ذكره واثنا عشر نفرًا من مماليكهما وأصحابهما وبطلت الغوغاء وسكنت الفتنة في الحال‏.‏

واستقر الأمر أيضًا على تولية السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون كما كان دبره طغجي وكرجي وسيروا بطلبه وحثوا الطلب في قدومه من الكرك إلى الديار المصرية وبقي يدبر الأمور ويعلم على الكتب المسيرة إلى البلاد ثمانية أمراء إلى أن حضر السلطان وهم‏:‏ الأمير سيف الدين سلار والأمير سيف الدين كرت والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير والأمير عز الدين أيبك الخازندار والأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير والأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار والأمير جمال الدين عبد الله السلاح دار وجميعهم منصورية قلاوونية وغالبهم قد أخرج من السجن بعد قتل لاجين‏.‏

يأتي ذلك كله في ترجمة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية عند عوده إلى السلطنة إن شاء الله تعالى‏.‏